فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (1):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت النساء لذلك، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد {بسم الله} الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور {الرحمن} الذي جعل الأرحام رحمة عامة {الرحيم} الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة.
لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل- كما تبين في علم الأخلاق- أربعًا: العلم والشجاعة والعدل والعفة، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها، وهما العلم والشجاعة- كما أشير إلى ذلك في غير آية {نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 3]، {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} [آل عمران: 7]، {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18] {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} [آل عمران: 146] {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا} [آل عمران: 169]، {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} [آل عمران: 172]، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} [آل عمران: 200]، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جورًا عن سواء السبيل وضلالًا عن أقوم الدليل؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين، وما أحسن ابتداءها بعموم: {يا أيها الناس} بعد اختتام تلك بخصوص {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} الآية.
ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها، فكانت في غاية المشقة على النفوس، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال: {اتقوا ربكم} أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس.
ابتدأ هذه ببيان كيفية ابتداء الخلق حثًا على أساس التقوى من العفة والعدل فقال: {الذي} جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها، وذلك أنه {خلقكم من نفس واحدة} هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكرًا بعظيم قدرته ترهيبًا للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعًا لسورتين: هذه وهي رابعة النصف الأول، والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويرًا لا مزيد عليه، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهًا على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا لأجله، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه، وربت ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر؛ بين في هذه السورة بقوله- عطفًا على ما تقديره جوابًا لمن كأنه قال: كيف كان ذلك؟- إنشاء تلك النفس، أو تكون الجملة حالية- {وخلق منها زوجها} أي مثله في ذلك أيضًا كمثل حواء: أمه فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه: آدم وحواء معًا عليهما الصلاة والسلام، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام- المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه- حاصرًا للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى، بشر منهما، بشر من ذكر فقط، بشر من أنثى فقط؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق، وعبر عن غيرها بالجعل، لخلو السياق عن هذا الغرض، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام: {كذلك الله يفعل ما يشاء} [آل عمران: 40] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {يخلق ما يشاء} [آل عمران: 47]، وأيضًا فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء- لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها- أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع- فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم!.
ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية، ولما كان الكل- المشار إليه بقوله تعالى عطفًا على ما تقديره: وبث لكم منه إليها: {وبث منهما} أي فرق ونشر من التوالد، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدمًا وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله: {رجالًا كثيرًا ونساءً} من نفس واحدة؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار.
ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيرًا إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم، عطف على ذلك الأمر أمرًا آخر مشيرًا إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال: {واتقوا الله} أي عمومًا لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصًا لما له إليكم من الإحسان والتربية، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سببًا لتربيتكم.
ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال: {الذين تساءلون} أي يسأل بعضكم بعضًا {به} فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف، ثم زاد المقصود إيضاحًا فقال: {والأرحام} أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها، فإنكم تقولون: ناشدتك بالله والرحم! وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة.
فقال مؤكدًا لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك في أنه بعين الله سبحانه: {إن الله} أي المحيط علمًا وقدرة {كان عليكم} وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد {رقيبًا} وخفض حمزة {الأرحام} المقسم بها تعظيمًا لها وتأكيدًا للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها- كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفًا كما شرحته آية {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23]، وغيرها- أو كان قسمًا، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة، وأحقهم بالصلة الولد، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال. اهـ.

.اللغة:

{بث} نشر وفرق ومنه: {وزرابي مبثوثة}.
{الأرحام} جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه ثم أطلق على القرابة.
{رقيبا} الرقيب: الحفيظ المطلع على الأعمال.
{حوبا}: الحوب: الذنب والإثم.
{تعولوا} تميلوا وتجوروا يقال: عال الميزان إذا مال، وعال الحاكم إذا جار.
{صدقاتهن} جمع صدقة وهو المهر.
{نحلة} هبة وعطية.
{السفهاء} ضعفاء العقول والمراد به هنا المبذرون للأموال.
{آنستم} أبصرتم، من آنس الشيء أبصره.
{بدارا} أي مبادرة بمعنى مسارعة أي يسارع في تبذيرها قبل أن يكبر اليتيم فيتسلمها منه.
{سديدا} من السداد بمعنى الاستقامة. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{تساءلون} خفيفًا بحذف التاء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وعباس مخير. الباقون بالتشديد أي بإدغام تاء التفاعل في السين {والأرحام} بالجر حمزة. الباقون بالنصب. {ما طاب} بالإمالة: حمزة. {واحدة} بالرفع: يزيد: الباقون بالنصب. {هنيًّا مريًّا} بالتشديد فيهما: يزيد وحمزة في الوقف على أيهما وقف، وإذا انفرد {هنيئًا} همزها كل القرآن: يزيد. {قيمًا} ابن عامر ونافع. الباقون {قيامًا} {ضعافًا} بالإمالة: خلف عن حمزة وابن سعدان والعجلي وخلف لنفسه وقتيبة على أصله. {وسيصلون} بضم الياء: ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل. الباقون بفتحها.

.الوقوف:

{ونساء} ج. لأن الجملتين وإن اتفقتا إلا أنه اعترضت المعطوفات {والأرحام} ط {رقيبًا} o {بالطيب} ص {إلى أموالكم} ط {كبيرًا} o {ورباع} ج {أيمانكم} ط {أن لا تعولوا} ط لابتداء حكم آخر {نحلة} ط لأن المشروط خارج عن أصل الشرط الموجب {مريئًا} o {معروفًا} o {النكاح} ج بناء على أنه ابتداء شرط بعد بلوغ النكاح، أو مجموع الشرط والجواب جواب إذا وحتى تكون داخلة على جملة شرطية مقدمها حملية، وثالثها شرطية أخرى. {أموالهم} ج {أن يكبروا} ط لابتداء جملتين متضادتين {فليستعفف} ج {بالمعروف} ط للعود إلى أصل الموجب بعد وقوع العارض. {عليهم} ط {حسيبًا} o {والأقربون} الأول ص {أو أكثر} ط بتقدير جعلناه نصيبًا مفروضًا {معروفًا} o {خافوا عليهم} ص {سديدًا} o {نارًا} ط {سعيرًا} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف، وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام، والرأفة بهم وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، وبهذا المعنى ختمت السورة، وهو قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ في الكلالة} [النساء: 176] وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف، وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع، لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة، وهي تقوى الرب الذي خلقنا والاله الذي أوجدنا، فلهذا قال: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ}. اهـ.
قال الفخر:
روى الواحدي عن ابن عباس في قوله: {يا أَيُّهَا الناس} أن هذا الخطاب لأهل مكة، وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين، وهذا هو الأصح لوجوه:
أحدها: أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق.
وثانيها: أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقًا لهم من نفس واحدة، وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم، وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما.
وثالثها: أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام في حق جميع العالمين، وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل، وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل، وكانت علة هذا التكليف، وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق الكل، كان القول بالتخصيص في غاية البعد.
وحجة ابن عباس أن قوله: {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم.
فيقولون أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله والرحم، وإذا كان كذلك كان قوله: {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} مختصا بالعرب، فكان أول الآية وهو قوله: {أَيُّهَا الناس} مختصا بهم لأن قوله في أول الآية: {اتقوا رَبَّكُمُ} وقوله بعد ذلك: {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} وردا متوجهين إلى مخاطب واحد، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها، فكان قوله: {يا أَيُّهَا الناس} عاما في الكل، وقوله: {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام}. خاصًا بالعرب. اهـ.